فصل: ذكر ملك العرب مدينة سوسة وأخذها منهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر حيلة لأمير المسلمين ظهرت ظهوراً غريباً:

كان بالمغرب إنسان اسمه محمد بن إبراهيم الكزولي، سيد قبيلة كزولة ومالك جبلها، وهو جبل شامخ، وهي قبيلة كثيرة، وبينه وبين أمير المسلمين يوسف بن تاشفين مودة واجتماع، فلما كان هذه السنة أرسل يوسف إلى محمد بن إبراهيم يطلب الاجتماع به، فركب إليه محمد، فلما قاربه خافه على نفسه، فعاد إلى جبله، واحتاط لنفسه، فكتب إليه يوسف، وحلف له أنه ما أراد به إلا الخير، ولم يحدث نفسه بغدر. فلم يركن محمد إليه.
فدعا يوسف حجاماً، وأعطاه مائة دينار، وضمن له مائة دينار أخرى، إن هو سار إلى محمد بن إبراهيم واحتال على قتله. فسار الحجام، ومعه مشاريط مسمومة، فصعد الجبل، فلما كان الغد خرج ينادي لصناعته بالقرب من مساكن محمد، فسمع محمد الصوت، فقال: هذا الحجام من بلدنا؟ فقيل: إنه غريب، فقال: أراه يكثر الصياح، وقد ارتبت بذلك، ائتوني به. فأحضر عنده، فاستدعى حجاماً آخر وأمره أن يحجمه بمشاريطه التي معه، فامتنع الحجام الغريب، فأمسك وحجم فمات، وتعجب الناس من فطنته.
فلما بلغ ذلك يوسف ازداد غيظه، ولج في السعي في أذى يوصله إليه، فاستمال قوماً من أصحاب محمد، فمالوا إليه، فأرسل إليهم جراراً من عسل مسموم، فحضروا عند محمد وقالوا: قد وصل إلينا قوم معهم جرار من عسل أحسن ما يكون، وأردنا إتحافك به، وأحضروها بين يديه، فلما رآه أمر بإحضار خبز، وأمر أولئك الذين أهدوا إليه العسل أن يأكلوا منه، فامتنعوا، واستعفوه من أكله، فلم يقبل منهم، وقال: من لم يأكل قتل بالسيف، فأكلوا، فماتوا عن آخرهم.
فكتب إلى يوسف بن تاشفين: إنك قد أردت قتلي بكل وجه، فلم يظفرك الله بذلك، فكف عن شرك، فقد أعطاك الله المغرب بأسره، ولم يعطني غير هذا الجبل، وهو في بلادك كالشامة البيضاء في الثور الأسود، فلم تقنع بما أعطاك الله، عز وجل. فلما رأى يوسف أن سره قد انكشف وأنه لا يمكنه في أمره شيء لحصانة جبله أعرض عنه وتركه.

.ذكر ملك العرب مدينة سوسة وأخذها منهم:

في هذه السنة نقض ابن علوي ما بينه وبين تميم بن المعز بن باديس أمير إفريقية من العهد، وسار في جميع من عشيرته العرب، فوصل إلى مدينة سوسة من بلاد إفريقية، وأهلها غارون لم يعلموا به، فدخلها عنوة، وجرى بينه وبين من بها من العسكر والعامة قتال، فقتل من الطائفتين جماعة وكثر القتل في أصحابه والأسر، وعلم أنه لا يتم له مع تميم حال، ففارقها، وخرج منها إلى حلته من الصحراء.
وكان بإفريقية هذه السنة غلاء شديد، وبقي كذلك إلى سنة أربع وثمانين، وصلحت أحوال أهلها، وأخصبت البلاد، ورخصت الأسعار، وأكثر أهلها الزرع.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة قطعت الحرامية الطريق على قفل كبير بولاية حلب، فركب آقسنقر في جماعة من عسكره وتبعهم، ولم يزل حتى أخذهم وقتلهم، فأمنت الطرق بولايته.
وفيها ورد العميد الأغر أبو المحاسن عبد الجليل بن علي الدهستاني إلى بغداد عميداً، وعزل أخوه كمال الملك على ما ذكرناه.
وفيها درس الإمام أبو بكر الشاشي في المدرسة التي بناها تاج الملك مستوفي السلطان بباب إبرز من بغداد، وهي المدرسة التاجية المشهورة.
وفيها عمرت منارة جامع حلب.
وفيها توفي الخطيب أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن عبد الواحد بن أبي الحديد السلمي، خطيب دمشق، في ذي الحجة.
وفيها توفي أحمد بن محمد بن صاعد بن محمد أبو نصر النيسابوري رئيسها، ومولده سنة عشر وأربعمائة، وكان من العلماء، وعاصم بن الحسن بن محمد بن علي بن عاصم العاصمي البغدادي من أهل الكرخ، كان ظريفاً كيساً، له شعر حسن، فمنه:
ماذا على متلون الأخلاق ** لو زارني، فأبثه أشواقي

وأبوح بالشكوى إليه تذللاً، ** وأفض ختم الدمع من آماقي

فعساه يسمح بالوصال لمدنف ** ذي لوعة، وصبابة، مشتاق

أسر الفؤاد، ولم يرق لموثق ** ما ضره لو جاد بالإطلاق

إن كان قد لسبت عقارب صدغه ** قلبي، فإن رضابه درياقي

وقال أيضاً:
فديت من ذبت شوقاً من محبته، ** وصرت من هجره فوق الفراش لقا

سمعته يتغنى، وهو مصطبح، ** أفديه مصطبحاً منه، ومغتبقا

وأخلفتك ابنة البكري ما وعدت، ** وأصبح الحبل منه واهياً خلقا

والصحيحأنه توفي سنة ثلاث وثمانين.
وفيها، في جمادى الآخرة، توفي الشريف أبو القاسم العلوي، الدبوسي، المدرس بالنظامية ببغداد، وكان فاضلاً فصيحاً. ثم دخلت:

.سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة:

.ذكر وفاة فخر الدولة ابن جهير:

في هذه السنة، في المحرم، توفي فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير الذي كان وزير الخليفة بمدينة الموصل، ومولده بها سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وتزوج إلى أبي العقارب شيخها، ونظر في إملاك جارية قرواش، المعروفة بسرهنك، ثم خدم بركة بن المقلد، حتى قبض على أخيه قرواش وحبسه، ومضى بهدايا إلى ملك الروم، فاجتمع هو ورسول نصر الدولة بن مروان، فتقدم فخر الدولة عليه، فنازعه رسول ابن مروان، فقال فخر الدولة لملك الروم: أنا أستحق التقدم عليه لأن صاحبه يؤدي الخراج إلى صاحبي.
فلما عاد إلى قريش بن بدران أراد القبض عليه، فاستجار بأبي الشداد، وكانت عقيل تجير على أمرائها، وسار إلى حلب، فوزر لمعز الدولة أبي ثمال ابن صالح. ثم مضى إلى ملطية، ومنها إلى ابن مروان، فقال له: كيف أمنتني وقد فعلت برسولي ما فعلت عند ملك الروم؟ فقال: حملني على ذلك نصح صاحبي. فاستوزره، فعمر بلاده.
ووزر بعد نصر الدولة لولده، ثم سار إلى بغداد، وولي وزارة الخليفة، على ما ذكرناه، وتولى أخذ ديار بكر من بني مروان، على ما ذكرناه أيضاً، ثم أخذها منه السلطان، فسار إلى الموصل فتوفي بها.

.ذكر نهب العرب البصرة:

وفي هذه السنة، في جمادى الأولى، نهب العرب البصرة نهباً قبيحاً.
وسبب ذلك أنه ورد إلى بغداد، في بعض السنين، رجل أشقر من سواد النيل يدعي الأدب، والنجوم، ويستجري الناس، فلقبه أهل بغداد تليا، وكان نازلاً في بعض الخانات، فسرق ثياباً من الديباج وغيره، وأخفاها في خلفا، وسار بهم، فرآها الذين يحفظون الطريق، فمنعوه من السفر اتهاماً له، وحملوه إلى المقدم عليهم، فأطلقه لحرمة العلم.
فسار إلى أمير من أمراء العرب من بني عامر، وبلاده متاخمة الأحساء، وقال له: أنت تملك الأرض، وقد فعل أجدادك بالحاج كذا وكذا، وأفعالهم مشهورة، مذكورة في التواريخ، وحسن له نهب البصرة وأخذها، فجمع من العرب ما يزيد على عشرة آلاف مقاتل، وقصد البصرة، وبها العميد عصمة، وليس معه من الجند إلا اليسير، لكون الدنيا آمنة من ذاعر، ولأن الناس في جنة من هيبة السلطان، فخرج إليهم في أصحابه، وحاربهم، ولم يمكنهم من دخول البلد، فأتاه من أخبره أن أهل البلد يريدون أن يسلموه إلى العرب، فخاف، ففارقهم، وقصد الجزيرة التي هي مكان القلعة بنهر معقل.
فلما عاد أهل البلد بذلك فارقوا ديارهم وانصرفوا، ودخل العرب حينئذ البصرة، وقد قويت نفوسهم، ونهبوا ما فيها نهباً شنيعاً، فكانوا ينهبون نهاراً، وأصحاب العميد عصمة ينهبون ليلاً، وأحرقوا مواضع عدة، وفي جملة ما أحرقوا داران للكتب إحداهما وقفت قبل أيام عضد الدولة ابن بويه، فقال عضد الدولة: هذه مكرمة سبقنا إليها، وهي أول دار وقفت في الإسلام. والأخرى وقفها الوزير أبو منصور بن شاه مردان، وكان بها نفائس الكتب وأعيانها، وأحرقوا أيضاً النحاسين وغيرها من الأماكن.
وخربت وقوف البصرة التي لم يكن لها نظير، من جملتها: وقوف على الحمال الدائرة على شاطيء دجلة، وعلى الدواليب التي تحمل الماء وترقيه إلى قنى الرصاص الجارية إلى المصانع، وهي على فراسخ من البلد، وهي من عمل محمد بن سليمان الهاشمي وغيره.
وكان فعل العرب بالبصرة أول خرق جرى في أيام السلطان ملكشاه. فلما فعلوا ذلك، وبلغ الخبر إلى بغداد، انحدر سعد الدولة كوهرائين، وسيف الدولة صدقة بن مزيد إلى البصرة لإصلاح أمورها، فوجدوا العرب قد فارقوها.
ثم إن تليا أخذ بالبحرين، وأرسل إلى السلطان، فشهره ببغداد سنة أربع وثمانين على جمل، وعلى رأسه طرطور، وهو يصفع بالدرة، والناس يشتمونه، ويسبهم، ثم أمر به فصلب.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة قدم الإمام أبو عبد الله الطبري بغداد، في المحرم، بمنشور من نظام الملك بتوليته تدريس المدرسة النظامية، ثم ورد بعده، في شهر ربيع الآخر من السنة، أبو محمد عبد الوهاب الشيرازي، وهو أيضاً معه منشور بالتدريس، فاستقر أن يدرس يوماً، والطبري يوماً. ثم دخلت:

.سنة أربع وثمانين وأربعمائة:

.ذكر عزل الوزير أبي شجاع ووزارة عميد الدولة بن جهير:

في هذه السنة، في ربيع الأول، عزل الوزير أبو شجاع من وزارة الخليفة.
وكان سبب عزله أن إنساناً يهودياً ببغداد يقال له أبو سعد بن سمحا كان وكيل السلطان ونظام الملك، فلقيه إنسان يبيع الحصر، فصفعه صفعة أزالت عمامته عن رأسه، فأخذ الرجل، وحمل إلى الديوان، وسئل عن السبب في فعله، فقال: هو وضعني على نفسه، فسار كوهرائين ومعه ابن سمحا اليهودي إلى العسكر يشكوان، وكانا متفقين على الشكاية من الوزير أبي شجاع.
فلما سارا خرج توقيع الخليفة بإلزام أهل الذمة بالغيار، ولبس ما شرط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه فهربوا كل مهرب، أسلم بعضهم، فممن أسلم أبو سعد العلاء بن الحسن بن وهب بن موصلايا الكاتب، وابن أخيه أبو نصر هبة الله بن الحسن بن علي صاحب الخبر، أسلما على يدي الخليفة.
ونقل أيضاً عنه إلى السلطان ونظام الملك أنه يكسر أغراضهم ويقبح أفعالهم، حتى إنه لما ورد الخبر بفتح السلطان سمرقند قال: وما هذا مما يبشر به، كأنه قد فتح بلاد الروم، هل أتى إلا إلى قوم مسلمين موحدين، فاستباح منهم ما لا يستباح من المشركين! فلما وصل كوهرائين وابن سمحا إلى العسكر وشكوا من الوزير إلى السلطان ونظام الملك، وأخبراهما بجميع ما يقول عنهما، ويكسر من أغراضهما، أرسلا إلى الخليفة في عزله، فعزله، وأمره بلزوم بيته، وكان عزله يوم الخميس، فلما أمر بذلك أنشد:
تولاها وليس له عدو، ** وفارقها وليس له صديق

فلما كان الغد، يوم الجمعة، خرج من داره إلى الجامع راجلاً، واجتمع الخلق العظيم عليه، فأمر أن لا يخرج من بيته، ولما عزل استنيب في الوزراة أبو سعد بن موصلايا، كاتب الإنشاء، وأرسل الخليفة إلى السلطان ونظام الملك يستدعي عميد الدولة بن جهير ليستوزره، فسير إليه، فاستوزره في ذي الحجة من هذه السنة، وركب إليه نظام الملك، فهنأه بالوزارة في داره، وأكثر الشعراء تهنئته بالعود إلى الوزارة.

.ذكر ملك أمير المسلمين بلاد الأندلس التي للمسلمين:

في هذه السنة، في رجب، ملك أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، صاحب بلاد المغرب، من بلاد الأندلس ما هو بيد المسلمين: قرطبة وإشبيلية، وقبض على المعتمد بن عباد صاحبها، وملك غيرها من الأندلس.
ولقد جرى للرشيد بن المعتمد حادثة شبيهة بحادثة الأمين محمد بن هارون الرشيد. قال أبو بكر عيسى بن اللبانة الداني، من مدينة دانية: كنت يوماً عند الرشيد بن المعتمد في مجلس أنسه سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة، فجرى ذكر غرناطة، وملك أمير المسلمين لها، وقد ذكرنا أخذها في وقعة الزلاقة، فلما ذكرناها تفجع، وتلهف، واسترجع، وذكر قصرها، فدعونا لقصره بالدوام، ولملكه بتراخي الأيام. فأمر عند ذلك أبا بكر الإشبيلي بالغناء فغنى:
يا دار مية بالعلياء فالسند ** أقوت، وطال عليها سالف الأبد

فاستحالت مسرته، وتجهمت أسرته. ثم أمر بالغناء من ستارته فغني:
إن شئت أن لا ترى صبراً لمصطبر، ** فانظر إلى أي حال أصبح الطلل

فتأكد تطيره، واشتد اربداد وجهه وتغيره، وأمر مغنية أخرى بالغناء، فغنت:
يا لهف نفسي على مال أفرقه ** على المقلين من أهل المروءات

إن اعتذاري إلى من جاء يسألني ** ما ليس عندي من إحدى المصيبات

قال ابن اللبانة: فتلافيت الحال بأن قمت فقلت:
محل مكرمة لا هد مبناه، ** وشمل مأثرة لا شته الله

البيت كالبيت لكن زاد ذا شرفاً، ** إن الرشيد مع المعتد ركناه

ثاو على أنجم الجوزاء مقعده، ** وراحل في سبيل الله مثواه

حتم على الملك أن يقوى وقد وصلت ** بالشرق والغرب يمناه ويسراه

بأس توقد، فاحمرت لواحظه ** ونائل شب، فاخضرت عذاراه

فلعمري قد بسطت من نفسه، وأعدت عليه بعض أنسه. على أني وقعت فيما وقع فيه الكل بقولي البيت كالبيت. وأمر إثر ذلك بالغناء فغني:
ولما قضينا من منى كل حاجة، ** ولم يبق إلا أن تزم الركائب

فأيقنا أن هذه الطير، تعقب الغير. فلما أراد أمير المسلمين ملك الأندلس سار من مراكش إلى سبتة، وأقام بها، وسير العساكر مع سير بن أبي بكر وغيره إلى الأندلس، فعبروا الخليج فأتوا مدينة مرسية، فملكوها وأعمالها، وأخرجوا صاحبها أبا عبد الرحمن بن طاهر منها، وساروا إلى مدينة شاطبة ومدينة دانية فملكوهما.
وكانت بلنسية قد ملكها الفرنج قديماً، بعد أن حصروها سبع سنين، فلما سمعوا بوقعة الزلاقة فارقوها، فملكها المسلمون أيضاً، وعمروها وسكنوها، فصارت الآن للمرابطين.
وكانوا قد ملكوا غرناطة نوبة الزلاقة، فقصدوا مدينة إشبيلية، وبها صاحبها المعتمد بن عباد، فحصروه بها، وضيقوا عليه، فقاتل أهلها قتالاً شديداً، وظهر من شجاعة المعتمد، وشدة بأسه، وحسن دفاعه عن بلده ما لم يشاهد من غيره ما يقاربه، فكان يلقي نفسه في المواقف التي لا يرجى خلاصه منها، فيسلم بشجاعته، وشدة نفسه، ولكن إذا نفدت اامدة، لم تغن العدة.
وكانت الفرنج قد سمعوا بقصد عساكر المرابطين بلاد الأندلس، فخافوا أن يملكوها ثم يقصدوا بلادهم، فجمعوا فأكثروا، وساروا ليساعدوا المعتمد، ويعينوه على المرابطين، فسمع سير بن أبي بكر، مقدم المرابطين، بمسيرهم، ففارق إشبيلية وتوجه إلى لقاء الفرنج، فلقيهم، وقاتلهم، وهزمهم، وعاد إلى إشبيلية فحصرها، ولم يزل الحصار دائماً، والقتال مستمراً إلى العشرين من رجب من هذه السنة، فعظم الحرب ذلك اليوم، واشتد الأمر على أهل البلد، ودخله المرابطون من واديه، ونهب جميع ما فيه، ولم يبقوا على سبد ولا لبد، وسلبوا الناس ثيابهم، فخرجوا من مساكنهم يسترون عوراتهم بأيديهم، وسبيت المخدرات، وانتهكت الحرمات، فأخذ المعتمد أسيراً، ومعه أولاده الذكور والإناث، بعد أن استأصلوا جميع مالهم، فلم يصحبهم من ملكهم بلغة زاد.
وقيل: إن المعتمد سلم البلد بأمان، وكتب نسخة الأمان والعهد، واستحلفهم به لنفسه، وأهله، وماله، وعبيده، وجميع ما يتعلق بأسبابه. فلما سلم إليهم إشبيلية لم يفوا له، وأخذوهم أسراء، ومالهم غنيمة، وسير المعتمد وأهله إلى مدينة أغماث، فحبسوا فيها، وفعل أمير المسلمين بهم أفعالاً لم يسلكها أحد ممن قبله، ولا يفعلها أحد ممن يأتي بعده، إلا من رضي لنفسه بهذه الرذيلة، وذلك أنه سجنهم فلم يجر عليهم ما يقوم بهم، حتى كانت بنات المعتمد يغزلن للناس بأجرة ينفقونها على أنفسهم، وذكر ذلك المعتمد في أبيات ترد عند ذكر وفاته، فأبان أميرر المسلمين بهذا الفعل عن صغر نفس ولؤم قدرة.
وأغمات هذه مدينة في سفح جبل بالقرب من مراكش، وسيرد من ذكر المعتمد عند موته، سنة ثمان وثمانين، ما يعرف به محله.
قال أبو بكر بن اللبانة: زرت المعتمد بعد أسره بأغمات، وقلت أبياتاً عند دخولي إليه، منها:
لم أقل في الثقاف كان ثقافاً، ** كنت قلباً به، وكان شغافا

يمكث الزهر في الكمام، ولكن ** بعد مكث الكمام يدنو قطافا

وإذا ما الهلال غاب بغيم ** لم يكن ذلك المغيب انكسافا

إنما أنت درة للمعالي، ** ركب الدهر فوقها أصدافا

حجب البيت منك شخصاً كريماً، ** مثلما تحجب الدنان السلافا

أنت للفضل كعبة، ولو أني ** كنت أستطيع لالتزمت الطوافا

قال: وجرت بيني وبينه مخاطبات ألذ من غفلات الرقيب، وأشهى من رشفات الحبيب، وأدل على السماح، من فجر على صباح.
ولما أخذ المعتمد وأهله قتل ولداه الفتح ويزيد بين يديه صبراً، فقال في ذلك:
يقولون صبراً! لا سبيل إلى الصبر، ** سأبكي، وأبكي ما تطاول من عمري

أفتح لقد فتحت لي باب رحمة، ** كما بيزيد، الله قد زاد في أجري

هوى بكما المقدار عني، ولم أمت، ** فأدعى وفياً، قد نكصت إلى الغدر

ولو عدتما لاخترتما العود في الثرى ** إذا أنتما أبصرتماني في الأسر

أبا خالد أورثتني البث خالداً، ** أبا نصر مذ ودعت ودعني نصري

وكان المعتمد يكاتبه فضلاء البلاد، وهو محبوس، بالنثر والنظم، يتوجعون له، ويذمون الزمان وأهله، حيث مثله منكوب، فمن ذلك ما قاله عبد الجبار بن أبي بكر بن حمديس، وكتبه إليه يذكر مسيرهم عن إشبيلية إلى أغمات:
جرى لك جد بالكرام عثور، ** وجار زمان كنت منه تجير

لقد أصبحت بيض الظبى في غمودها ** إناثاً لترك الضرب، وهي ذكور

ولما رحلتم بالندى في أكفكم، ** وقلقل رضوى منكم وثبير

رفعت لساني بالقيامة قد أتت، ** ألا فانظروا كيف الجبال تسير

وقال شاعره ابن اللبانة في حادثته أيضاً:
تبكي السماء بدمع رائح غادي ** على البهاليل من أبناء عباد

على الجبال التي هدت قوعدها ** وكانت الأرض منها تحت أوتاد

عريسة دخلتها النائبات على ** أساود منهم فيها وآساد

وكعبة كانت الآمال تعمرها، ** فاليوم لا عاكف فيها، ولا باد

ولما استقصى عسكر أمير المسلمين ملوك الأندلس، وأخذ بلادهم، جمع ملوكهم وسيرهم إلى بلاد الغرب، وفرقهم فيها {إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة}.
ولما فرغ سير من إشبيلية سار إلى المرية فنازلها، وكان صاحبها محمد بن معن بن صمادح، فقال لولده: ما دام المعتمد بإشبيلية فلا نبالي بالمرابطين. فلما سمع بملكهم لها، وما جرى للمعتمد، مات في تلك الأيام غماً وكمداً، فلما مات سار ولده الحاجب وأهله في مراكب، ومعهم كل مالهم، وقصدوا بلاد بني حماد، فأحسنوا إليهم.
وكان عمر بن الأفطس، صاحب بطليوس، ممن أعان سير على المعتمد، فلما فتحت إشبيلية رجع ابن الأفطس إلى بلده، فسار إليه سير، وحاربه، فغلبه، وأخذ بلده منه، وأخذه أسيراً هو وولده الفضل، فقتلهما، فقال عمر حين أرادوا قتله: قدموا ولدي قبلي للقتل ليكون في صحيفتي! فقتل ولده قبله، وقتل هو بعده، واحتوى سير على ذخائرهم وأموالهم.
ولم يترك من ملوك الأندلس سوى بني هود، فإنه لم يقصد بلادهم، وهي شرق الأندلس، وكان صاحبها حينئذ المستعين بالله بن هود، وهو من الشجعان الذين يضرب المثل بهم، وكان قد أعد كل ما يحتاج إليه في الحصار، وترك عنده ما يكفيه عدة سنين بمدينة روطة، وكانت قلعة حصينة، وكانت رعيته تخافه، ولم يزل يهادي أمير المسلمين، قبل أن يقصد بلاد الأندلس ويملكها، ويواصله، ويكثر مراسلته، فرعى له ذلك، حتى إنه أوصى ابنه علي بن يوسف عند موته بترك التعرض لبلاد بني هود، وقال: اتركهم بينك وبين العدو، فإنهم شجعان.

.ذكر ملك الفرنج جزيرة صقلية:

في هذه السنة استولى الفرنج، لعنهم الله، على جميع جزيرة صقلية، أعادها الله تعالى إلى الإسلام والمسلمين.
وسبب ذلك أن صقلية كان الأمير عليها سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة أبا الفتوح يوسف بن عبد الله بن محمد بن أبي الحسين، ولاه عليها العزيز العلوي، صاحب مصر وإفريقية، فأصابه هذه السنة فالج، فتعطل جانبه الأيسر، وضعف جانبه الأيمن، فاستناب ابنه جعفراً، فبقي كذلك ضابطاً للبلاد، حسن السيرة في أهلها إلى سنة خمس وأربعمائة، فخالف عليه أخوه علي، وأعانه جمع من البربر والعبيد، فأخرج إليه أخوه جعفر جنداً من المدينة، فاقتتلوا سابع شعبان، وقتل من البربر والعبيد خلق كثير، وهرب من بقي منهم وأخذ علي أسيراً، فقتله أخوه جعفر، وعظم قتله على أبيه، فكان بين خروجه وقتله ثمانية أيام.
وأمر جعفر حينئذ أن ينفى كل بربري بالجزيرة، فنفوا إلى إفريقية، وأمر بقتل العبيد، فقتلوا عن آخرهم وجعل جنده كلهم من أهل صقلية. فقل العسكر بالجزيرة، وطمع أهل الجزيرة في الأمراء، فلم يمض إلا يسير حتى ثار به أهل صقلية، وأخرجوه، وخلعوه، وأرادوا قتله.
وسبب ذلك أنه ولى عليهم إنساناً صادرهم، وأخذ الأعشار من غلاتهم، واستخف بقوادهم وشيوخ البلد، وقهر جعفر إخوته، واستطال عليهم، فلم يشعر إلا وقد زحف إليه أهل البلد كبيرهم وصغيرهم، فحصروه في قصره في المحرم سنة عشر وأربعمائة، وأشرفوا على أخذه، فخرج إليهم أبوه يوسف في محفة، وكانوا له محبين، فلطف بهم ورفق، فبكوا رحمة له من مرضه، وذكروا له ما أحدث ابنه عليهم، وطلبوا أن يستعمل ابنه أحمد المعروف بالأكحل، ففعل ذلك.
وخاف يوسف على ابنه جعفر منهم، فسيره في مركب إلى مصر، وسار أبوه يوسف بعده، ومعهما من الأموال ستمائة ألف دينار وسبعون ألفاً، وكان ليوسف من الدواب ثلاثة عشر ألف حجرة، سوى البغال وغيرها، ومات بمصر وليس له إلا دابة واحدة.
ولما ولي الأكحل أخذ أمره بالحزم والاجتهاد، وجمع المقاتلة، وبث سراياه في بلاد الكفرة، فكانوا يحرقون، ويغنمون، ويسبون، ويخربون البلاد، وأطاعه جميع قلاع صقلية التي للمسلمين.
وكان للأكحل ابن اسمه جعفر كان يستنيبه إذا سافر، فخالف سيرة أبيه، ثم إن الأكحل جمع أهل صقلية وقال: أحب أن أشيلكم على الإفريقيين الذين قد شاركوكم في بلادكم، والرأي إخراجهم، فقالوا: قد صاهرناهم وصرنا شيئاً واحداً، فصرفهم. ثم أرسل إلى الإفريقيين، فقال لهم مثل ذلك، فأجابوه إلى ما أراد، فجمعهم حوله، فكان يحمي أملاكهم، ويأخذ الخراج من أملاك أهل صقلية، فسار من أهل صقلية جماعة إلى المعز ابن باديس، وشكوا إليه ما حل بهم، وقالوا: نحب أن نكون في طاعتك، وإلا سلمنا البلاد إلى الروم، وذلك سنة سبع وعشرين وأربعمائة، فسير معهم ولده عبد الله في عسكر، فدخل المدينة، وحصر الأكحل في الخلاصة. ثم اختلف أهل صقلية، وأراد بعضهم نصرة الأكحل، فقتله الذين أحضروا عبد الله بن المعز.
ثم إن الصقليين رجع بعضهم على بعض، وقالوا: أدخلتم غيركم عليكم، والله لا كانت عاقبة أمركم فيه إلى خير! فعزموا على حرب عسكر المعز، فاجتمعوا وزحفوا في المراكب إلى إفريقية، وولى أهل الجزيرة عليهم حسناً الصمصام، أخا الأكحل، فاضطربت أحوالهم، واستولى الأراذل، وانفرد كل إنسان ببلد، وأخرجوا الصمصام، فانفرد القائد عبد الله بن منكوت بمازر وطرابنش وغيرهما، وانفرد القائد علي بن نعمة، المعروف بابن الحواس، بقصريانة وجرجنت وغيرهما، وانفرد ابن الثمنة بمدينة سرقوسة، وقطانية، وتزوج بأخت ابن الحواس.
ثم إنه جرى بينها وبين زوجها كلام فأغلظ كل منهما لصاحبه، وهو سكران، فأمر ابن الثمنة بفصدها في عضديها، وتركها لتموت، فسمع ولده إبراهيم، فحضر، وأحضر الأطباء، وعالجها إلى أن عادت قوتها، ولما أصبح أبوه ندم، واعتذر إليها بالسكر، فأظهرت قبول عذره.
ثم إنها طلبت منه بعد مدة أن تزو أخاها، فأذن لها، وسير معها التحف والهدايا، فلما وصلت ذكرت لأخيها ما فعل بها، فحلف أنه لا يعيدها إليه، فأرسل ابن الثمنة يطلبها، فلم يردها إليه، فجمع ابن الثمنة عسكره، وكان قد استولى على أكثر الجزيرة، وخطب له بالمدينة، وسار، وحصر ابن الحواس بقصريانة، فخرج إليه فقاتله، فانهزم ابن الثمنة، وتبعه إلى قرب مدينتة قطانية، وعاد عنه بعد أن قتل من أصحابه فأكثر.
فلما رأى ابن الثمنة أن عساكره قد تمزقت، سولت له نفسه الانتصار بالكفار لما يريده الله تعالى، فسار إلى مدينة مالطة، وهي بيد الفرنج قد ملكوها لما خرج بردويل الفرنجي الذي تقدم ذكره سنة اثنتين وسبعين وثلاث مائة، واستوطنها الفرنج إلى الآن، وكان ملكها حينئذ رجار الفرنجي في جمع من الفرنج، فوصل إليهم ابن الثمنة وقال: أنا أملككم الجزيرة! فقالوا: إن فيها جنداً كثيراً، ولا طاقة لنا بهم، فقال: إنهم مختلفون، وأكثرهم يسمع قولي، ولا يخالفون أمري. فساروا معه في رجب سنة أربع وأربعين وأربعمائة، فلم يلقوا من يدافعهم، فاستولوا على ما مروا به في طريقهم، وقصد بهم إلى قصريانة فحصروها، فخرج إليهم ابن الحواس، فقاتلهم، فهزمه الفرنج، فرجع إلى الحصن، فرحلوا عنه، وساروا في الجزيرة، واستولوا على مواضع كثيرة، وفارقها كثير من أهلها من العلماء والصالحين، وسار جماعة من أهل صقلية إلى المعز بن باديس، وذكروا له ما الناس فيه بالجزيرة من الخلف، وغلبة الفرنج على كثير منها، فعمر أسطولاً كبيراً، وشحنه بالرجال والعدد، وكان الزمان شتاء، فساروا إلى قوصرة، فهاج عليهم البحر، فغرق أكثرهم، ولم ينج إلا القليل.
وكان ذهاب هذا الأسطول مما أضعف المعز، وقوى عليه العرب، حتى أخذوا البلاد منه.
فملك حينئذ الفرنج أكثر البلاد على مهل وتؤدة، لا يمنعهم أحد، واشتغل صاحب إفريقية بما دهمه من العرب، ومات المعز سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة، وولي ابنه تميم، فبعث أيضاً أسطولاً وعسكراً إلى الجزيرة، وقدم عليه ولديه أيوب وعلياً، فوصلوا لى صقلية، فنزل أيوب والعسكر المدينة، ونزل علي جرجنت، ثم انتقل أيوب إلى جرجنت، فأمر علي بن الحواسأن ينزل في قصره، وأرسل هدية كثيرة.
فلما أقام أيوب فيها أحبه أهلها، فحسده ابن الحواس، فكتب إليهم ليخرجوه، فلم يفعلوا، فسار إليه في عسكره، وقاتله، فشد أهل جرجنت من أيوب، وقاتلوا معه، فبينما ابن الحواس يقاتل أتاه سهم غرب فقتله، فملك العسكر عليهم أيوب.
ثم وقع بعد ذلك بين أهل المدينة وبين عبيد تميم فتنة أدت إلى القتال، ثم زاد الشر بينهم، فاجتمع أيوب وعلي أخوه، ورجعا في الأسطول إلى إفريقية سنة إحدى وستين، وصحبهم جماعة من أعيان صقلية والأسطولية، ولم يبق للفرنج ممانع، فاستولوا على الجزيرة، ولم يثبت بين أيديهم غير قصريانة وجرجنت، فحصرهما الفرنج، وضيقوا على المسلمين بهما، فضاق الأمر على أهلهما حتى أكلوا الميتة، ولم يبق عندهم ما يأكلونه. فأما جرجنت فسلموها إلى الفرنج، وبقيت قصريانة بعدها ثلاث سنين، فلما اشتد الأمر عليهم أذعنوا إلى التسليم، فتسلمها الفرنج، لعنهم الله، سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وملك رجار جميع الجزيرة وأسكنها الروم والفرنج مع المسلمين، ولم يترك لأحد من أهلها حماماً، ولا دكاناً، ولا طاحوناً.
ومات رجار، بعد ذلك، قبل التسعين والأربعمائة، وملك بعده ولده رجار، فسلك طريق ملوك المسلمين من الجنائب والحجاب، والسلاحية، والجاندارية، وغير ذلك، وخالف عادة الفرنج، فإنهم لا يعرفون شيئاً منه، وجعل له ديوان المظالم ترفع إليه شكوى المظلومين، فينصفهم ولو من ولده، وأكرم المسلمين، وقربهم ومنع عنهم الفرنج، فأحبوه، وعمر أسطولاً كبيراً، وملك الجزائر التي بين المهدية وصقلية، مثل مالطة، وقوصرة، وجربة، وقرقنة، وتطاول إلى سواحل إفريقية، فكان منه ما نذكره إن شاء الله.